الحاكمية ٩

08-05-2020

- ٩ -   الحاكمية

 

كما بـيّن في فتح البيان بتفسير أبي السعود أفندي أن الحكم بغير ما أنزل الله استخفافاً واستحلالاً وإنكاراً بأحكام الله عز وجل لكفر أي إن الحاكم فهو كافر ولكن الحاكم بغير ما أنزل الله إن صدق بقلبه وأقر بلسانه على أن أحكام الله لحق فهو لا يكفر. وفي تفسير آية ٤٥: يصرح في الآية الأولى: أن الذين لا يحكمون بما أنزل الله تعالى فقد كفروا بناء على أنهم قد اخطئوا أمام الله عز وجل. ويبيّن في هذه الآية أن الذين لا يحكمون بما أنزل الله فألئك هم الظالمون، لأنهم ظلموا أنفسهم. وتوصف الحكام بغير ما أنزل الله في ثلاث أوجه: الأول: كفر، والثاني: ظلم ، والثالث: فسق...

وقال البعض إن الآية الأولى نزلت في من حكم بغير ما أنزل الله جاحداً أحكام الله عز وجل، والآية الثانية في اليهود والآية الثالثة في النصارى إلا أن الأصح هو أن أحكام الله عمومية لأن العبرة بعموم اللفظ.

قال المفسر التركي حمدي يازير في تفسيره: "دين الحق ولسان القرآن" في آية رقم ٤٧ والآيات السابقة من سورة المائدة: "إن الذي خرج عن حكم الله إما أنه يؤمن بحكم الله فهو فاسق مذنب. أو أنه إذا لا يؤمن به بقلبه أو يستخفف بأحكام الله فهو فاسق كافر خارج عن الملة، وتستحق عقوبة الفاسق في كلتي الحالتين. وبناءً على ذلك أن اليهود الذين لا يؤمنون بالحكم الملائم بالتوراة، وأن النصارى الذين لا يؤمنون بالحكم الملائم بالإنجيل فهم كافرون وظالمون وفاسقون حسب نظرهم وعقيدتهم أيضاً. كذلك من تشبه بهم فهو مثلهم. إن كفرهم بسبب إنكارهم واستخفافهم بأحكام الله، وإن ظلمهم بسبب حكمهم بغير ما أنزل الله بنبذهم أحكام الله التي هي ميزان الحق، وإن فسقهم بسبب خروجهم عن الحق.

يقول المرحوم عمر نصوحي بيلمن رئيس شؤون الدينية قديماً في تفسيره (تفسير القرآن الكريم ومآله العالي باللغة التركية) في تفسير آية ٤٤ من سورة المائدة: "ولقد تجلى هذا الوعيد الإلهي في الذين بدلوا وغيروا أحكام التوراة عمداً."

ولنقرأ تفسير آيات المائدة من التفسير الكبير:

قوله تعالى: ... ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الكافرون (المائدة:٤٤)

وفيه مسألتان، المسألة الأولى: المقصود من هذا الكلام تهديد اليهود في أقدامهم على تحريف حكم الله تعالى في حد الزاني المحصن، يعنى أنهم لما أنكروا حكم الله المنصوص عليه في التوراة وقالوا: انه غير واجب، فهم كافرون على الإطلاق، لا يستحقون اسم الإيمان لا بموسى ولا بالتوراة ولا بمحمد ولا بالقرآن." (كما يقول الأتاتوركيون نفس القول اليوم)

المسألة الثانية: قالت الخوارج: كل من عصى الله فهو كافر. وقال جمهور الأئمة: ليس الأمر كذلك، أما الخوارج فقد احتجوا بهذه الآية وقالوا: إنها نص في أن كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر. وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله، فوجب أن يكون كافراً.

وذكر المتكلمون والمفسرون أجوبة عن هذه الشبهة:

١ - إن هذه الآية نزلت في اليهود، فتكون مختصة بهم، وهذا ضعيف لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

٢ - ومنهم من حاول دفع هذا السؤال فقال: المراد بــ "ومن لم يحكم" من هؤلاء الذين سبق ذكرهم بما أنزل الله "فألئك هم الكافرون" وهذا أيضاً ضعيف لأن قوله ومن لم يحكم بما أنزل الله كلام أدخل فيه كلمة "من" في معرض الشرط، فيكون للعموم.

٣ - وقول من يقول: المراد "ومن لم يحكم بما أنزل الله" من الذين سبق ذكرهم فهو زيادة في النص وذلك غير جائز.

٤ - قال عطاء: هو كفر دون كفر.

٥ - وقال طاووس: ليس بكفر ينقل عن الملة كمن يكفر بالله واليوم الآخر، فكأنهم حملوا الآية على كفر النعمة لا على كفر الدين، وهو أيضاً ضعيف. لأن لفظ الكفر إذا أطلق انصرف إلى الكفر في الدين.

٦ - قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون المعنى: "ومن لم يحكم بما أنزل الله" فقد فعل فعلاً يضاهى أفعال الكفار، ويشبه من أجل ذلك الكافرين، وهذا ضعيف أيضاً، لأنه عدول عن ذلك.

٧ - قال عبد العزيز بن يحيى الكناني: قوله "بما أنزل الله" صيغة عموم. فقوله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله" معناه: من أتى بضد حكم الله تعالى في كل ما أنزل الله فألئك هم الكافرون وهذا حق لأن الكافر هو الذي أتى بضد حكم الله تعالى بكل ما أنزل الله. أما الفاسق فإنه لم يأت بضد حكم الله إلا في القليل، هو العمل، أما في الاعتقاد والإقرار فهو موافق للقرآن. وهذا أيضاً ضعيف لأنه لو كانت هذه الآية وعيداً مخصوصاً بمن خالف حكم الله تعالى في كل ما أنزل الله تعالى لم يتناول هذا الوعيد اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في الرجم. وأجمع المفسرون على أن هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله تعالى في واقعة الرجم فيدل على سقوط هذا الجواب.

٨ - قال عكرمة: قوله: "ومن لم يحكم بما أنزل الله" إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه كونه حكم الله، إلا أنه أتى بما يضاده فهو حاكم بما أنزل الله تعالى، ولكنه تارك له، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية، وهذا هو الجواب الصحيح والله أعلم.

وهذه هي أجوبة الجمهور على الخوارج.

 

خلاصة:

هناك ثلاث مسائل مهمة في تفسير وتأويل الآيات القرآنية ٤٤، ٤٥، ٤٧ من سورة المائدة: اختلاف في واحد منها واتفاق في الأخرى:

أ - المسألة التي فيها خلاف: إن هذه الآيات إنما نزلت عند بعض العلماء في اليهود والنصارى وصورت بعدم حكمهم بما أنزل الله في التوراة والإنجيل وصرحت بأنهم هم الكافرون والظالمون والفاسقون بهذا السبب. وعند بعض العلماء الآخرين أن هذا الحكم عمومي شامل لجميع الأمم.

بـ - المسائل التي وقع فيها الاتفاق:

١ - ولقد كفر من لم يحكم بما أنزل الله جحوداً وإنكاراً أو استهانةً أو اعتبارها غير كافية أو استهزاءً أو استخفافاً أو اعتبارها غير مصابة أو قولاً بأنها لا تتوافق مع ظروف العصر، أو بأنها تخلفتنا أو فات أوانها أو بأن الدين لا يتدخل شؤون الدنيا والدولة.

٢ - لا شك أن من آمن واعتقد أن الأحكام الإلهية هي الأحسن والحق الوحيد والصواب الوحيد وأن الحكم بما أنزل الله هو أمر القرآن الكريم ولكنه هو يحكم بغير ما أنزل الله من النظم والقوانين فهو فاسق وظالم وإن لم يكن كافراً.

ونضيف هنا مسألة واحدة أيضاً: كما ورد في القول الصحيح أن الأحكام الشرعية للأمم السالفة لشريعة ولحكم لنا أيضاً ما دامت مذكورة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وأنها لم تنسخ. وبهذا الاعتبار أن الأحكام التي تفيدها هذه الآيات المذكورة آنفاً معتبرة وصالحة عندنا أي إن هذه الآيات وإن كانت منزلة في اليهود والنصارى إلا أنها تتعلق بنا أمة محمد أيضاً.

 

كــفـر مـضاعـــف:

أليس ترك الحكم بما أنزل الله نظاماً ووضع القوانين مخالفة على الشريعة الإسلامية والحكم على الذين يريدون إقامة الدولة الإسلامية بأنهم مجرمون في المحاكم الخاصة كفراً مضاعفاً ثلاث أضعاف؟ .!ذلك هو موقف كمال آتاتورك وأتاتوركيين! وموقف الديموقراطيين! وكذا موقف الحزبيين! ولو صلوا! لماذا؟ لأنهم خالفوا النظام الشرعي، وهم مرتبطون بالنظم الشيطانية التي رتبت في شمال "جدار السور".

 

وبناء على أهمية الموضوع نعيده مرة أخري:

كما ذكرت في شق (ب) الذي استخرجت من كتاب "الأحكام الأساسية الإسلامية" قلنا ومن لم يحكم بما أنزل الله جحوداً وإنكاراً فهو الكافر، وأما إذا لم يحكم بما أنزل الله وأنه يؤمن به ويقبله حقاً ويراه حسناً وحيداً ويحكم بالقوانين الأخرى فلا شك في كونه ظالماً وفاسقاً ولو لم يكن كافراً. وهكذا وردت هذه المسألة في التفاسير عموماً.

 

وهـنا مـسـألـة أخرى وهي:

ما هي نية وعقيدة الحاكم ما دام أنه لم يحكم بقوانين الشريعة ؟ هل حكم هو مصدقاً للشريعة الإسلامية وموافقاً عليها أو هل هو حكم وأصدر القرار خلافاً للشريعة جحوداً وإنكاراً؟ فأيهما؟ بمعنى هل هو داخل في القسم الأول من شق (ب) أم داخل في القسم الثاني من شق (ب)؟ فتعيين هذه النقطة مهم جداً!..

 

وبعد ذلك لا بد من تحقيق وتفصيل هذه الفقرات:

١ - إن المسألة التي حكم خلافها هي مسألة واحدة أو عدة مسائل من الشريعة الإسلامية فقط. وفي نفس الوقت أن الحاكم هو شخص معروف. ويمكننا أن نقول -باعتبار النظر إلى ظاهر المسلم- هو داخل في الفقرة الثانية. وبذلك لا شك في كونه ظالماً وفاسقاً وإن لم يكن كافراً.

٢ - وأما إذا حكموا خلاف الشريعة الإسلامية كنظام بمعنى أنهم إن أصدروا قراراً مبدئياً على عدم الحكم بالشريعة الإسلامية خصوصاً في شؤون الدنيا والدولة، وحتى كتبوا هذه القرارات في المتن بمعنى أنهم أصدروا دساتير خلافاً للشرع -كما هو الوضع في تركيا- خلافاً للشريعة وعرضوه على الرأي العام الشعبي وكتبوا في متن هذه القوانين: " لا يمكن أن يستند أي مسألة من المسائل الحقوقية والثقافية والسياسية والاجتماعية وغير ذلك من مسائل الدولة إلى الدين" وأصدروا القرارات استناداً إلى هذا الدستور وحتى يعتبرون الحكم بالشريعة الإسلامية جرماً ويرتبون عليه معاقبات ما تبلغ إلى معاقبة الإعدام -كما هو الوضع في تركيا- ويؤسسون محاكم خاصة لتطبيق هذه العقوبات كـ "محاكم أمن الدولة" -كما كان في تركيا-وإذا نفذوها بالفعل فمن ينجيهم من الكفر والظلم والفسق؟ ولا يستطيع أن ينجيهم الأساتذة كأمثال قرقنجى الذين هم مثل محامي الأتاتوركيين! لماذا؟ لأنهم صاروا كفاراً ومشركين وظالمين وفاسقين! إن هؤلاء مضاعفون في هذه الأوصاف من ثلاثة أوجه.

١ - لعدم حكمهم بما أنزل الله تعالى كنظام!..

٢ ولقولهم قولاً كفراً وشركاً وهو "إن الحكم إلا للشعب" علانية وإعلاناً إلى كل العالم ولإصدارهم دساتير ولتحويلهم المنتخِبين مشركين مثل أنفسهم بعرضهم هذه الدساتير على أصوات الشعب. لأن الغرض من عرضها على أصوات الشعب هو من جانب قبول وتصديق محتوى الدستور الذي أعد ومن جانب أخرى إجبار قبول وتصديق وترجيح هذا الآتي: يا أيها الشعب: هناك دستوران! أحدهما: دستور أرسله الله وأنزله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم وهو دستور القرآن، ودستور الشريعة. والآخر:هو دستورنا الذي أعددناه! فأيهما ترجحونه وتختارونه وتقبلونه، فالذين يجيبون ب "نعم" هم يعجبون بما فعله الأتاتوركيون ويقبلونه ويصدقونه وبذلك ينكرون القرآن والشريعة. فهل يبقى فيهم الدين؟ والنكاح؟ ومن يستطيع أن يقول لهذا "لا"؟

٣ - ترتيبهم عقوبات كنظام؛ وبناء على هذا أليست من الشرك معاقبة الذين يقولون " نحن نريد شريعة الله ونريدها دولة، وإن الدساتير التي أصدرتموها والقوانين المستندة إلى هذه الدساتير لقوانين شرك!.. نحن لا نقبلها" بمعاقبات ما تبلغ إلى الإعدام؟ أليس هذا ظلم وفسق؟ ومن يستطيع أن يقول لهذا "لا"؟

نحن نريد أن نعيد القول بتعبيرات أخرى حتى لا يبقى أي شبهة عند أحد في موضوع "الحاكمية":

إن الدين الإسلامي يبدأ أولاً بكلمة الشهادة، وهي عبارة عن شيئين، الأول: شهادة بوحدانية الله، والآخر شهادة بمحمد -صلى الله عليه وسلم- عبداً ورسولاً. وبعد ذلك قبول وتصديق كل ما أتى به وأخبره محمد صلى الله عليه وسلم من الله تعالى ويؤمنه حقاً فيحترمه ويرضاه فيسلمه. إن شخصاً ما مادام أن يؤمن بهذه العقيدة ومادام أن يحافظ على هذه العقيدة فيستمر إسلامه. ثم بعد ذلك -العياذ بالله- إن أنكر وجحد أي شيء مما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون كافراً ومرتداً عن دينه سواء أكان إنكاره وجحوده بتعبير صريح أم بالفعل والحركات!

هذا هو الوضع الحقيقي للمسلمين الذين يعيشون في كثير من البلاد في العالم الإسلامي في عصرنا الحاضر هذا! فهم لا يحكمون بما أنزل الله الذي أتى به وبلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم يقولون "إنا مسلمون" ويتلفظون كلمة الشهادة وحتى يحجون! وحتى أن بعضهم يتجاوز الحد علاوة على كفرهم هذا فينبذ الشريعة الإسلامية وراء ظهوره ويضع القوانين بدلها تبعاً لعقله ويحكم بها. ها هو علاوة كفر ثان على كفرهم. أي أنهم ألغوا النظام الشرعي من المحاكم ويحكمون ويصدرون القرار بالقوانين التي هي صنع البشر والتي وضعوها بأنفسهم.

ها هم جمعوا الكفرين معاً، الأول هو: عدم حكمهم بما أنزل الله، والثاني: إصدارهم قرارات بإتيان القوانين تبعاً لصنع عقولهم وحلهم المشاكل مراعاة لها. وهم بذلك وضعوا أنفسهم مقام الله سبحانه وتعالى وأعلنوا عن أنفسهم أرباباً.

وهناك كفرهم الثالث وهو: عدهم واعتبارهم طلب الحكم بالشريعة الإسلامية جرماً وحتى التلفظ بالشريعة جرماً أيضاً ويعاقبون هؤلاء المسلمين بمعاقبة لا يعاقبون القاتل والجاني هكذا. وحتى إعلان أمثالهم كما كان في يومنا هذا وتشهيرهم بهذا الاسم في الصحافة والنشر وتحقيرهم. فما هذا؟ إن هذا تعبير عن عداوتهم الشريعة وإثبات وتعبير عن عداوة القرآن وعداوة الله.

 

والدلـيل على عـدم رغـبـتـهـم الـشريعـة:

إن سلطة الوطن بأيديهم والقوانين هكذا بأيديهم. وكذا وضع القوانين وإصدار القرارات بأيديهم ويضعون القوانين التي يريدونها في كل الأحيان ويصدرون القرارات، ومع هذا هم لا يحكمون بشريعة الله عز وجل والحال أن الشعب يطالبون حكم الشريعة باستمرار مع الإصرار! وإنهم إن أرادوا الحكم بالشريعة لكانوا يحكمون بها. ولكن قصدهم ومرامهم عدم الحكم بالشريعة. وفيهم قوة الإرادة والقدرة، وإن أرادوا الحكم بما أنزل الله لحكموا بها ألبتة. وإذا اعترض أحد وقال:

"ما ذا بأيديهم؟ هم جميعاً عباد للأمر، هم يفعلون ما تأمره الدولة الكافرة في الشرق والغرب وهم يطيعونهم!"

فجوابنا هكذا: إن رجال الدولة والقضاة لا يقولون مثل هذا القول، لا يصدر من أفواههم قولاً من هذا القبيل. لو أقروا مثل هذا القول بأفواههم واعترفوا به فهذا دليل آخر على كفرهم لأنه قد ظهر بهذا إطاعتهم الكفر، وبذلك ظهر عدم حكمهم بما أنزل الله. يقول الله تعالى في محكم التنزيل:

ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزلّ الله سنطيعكم في بعض الأمر و الله يعلم إسرارهم (محمد:٢٦)

يبين الله سبحانه وتعالى في كتابه؛ أنهم يدعون أنهم آمنوا بما نزل على محمد والحال ليس كذلك وهم يتحاكمون إلى الطاغوت ويأمرون الآخرين بالمحاكمة إلى الطاغوت، أي إيمان بالله وبكتابه من جانب، ومن جانب آخر محكمة الطاغوت! حركتان مضادتان تماماً، ما أعجب وجودهما في ضمير وقلب واحد!.. ويذكر لنا القرآن الكريم هذه الحقيقة هكذا:

ألم تر إلى الّذين يزعمون أنّهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشّيطان أن يضلّهم ضلالاً بعيداً. وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرّسول رأيت المنافقين يصدّون عنك صدود‎اً (النساء:٦٠-٦١)

 

وبعض الآيات الأخرى هكذا:

ويقولون آمنا بالله وبالرّسول وأطعنا ثمّ يتولىّ فريق مّنهم مّن بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين. وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذاً فريق منهم مّعرضون. وإن يكن لّهم الحقّ يأتوا إليه مذعنين. أفي قلوبهم مّرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظّالمون. إنّما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون (النور:٤٧-٥١)

فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مّمّا قضيت ويسلّموا تسليماً (النساء:٦٥)

وإذا مشينا تحت ضوء هذه الآيات وأمثالها فنشاهد: إن من شروط الإيمان قبول أحكام الله ورسوله والاستسلام لها بأجمعها، وإلا لا يصح الإيمان ولا يقبل. فها هم صاروا مشركين ولو صلوا وصاموا!.. قوله تعالى:

اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً مّن دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلاّ ليعبدوا إلهاً واحداً لاّ إله إلاّ هو سبحانه عمّا يشركون (التوبة:٣١)

سأل حذيفة -رضي الله عنه- عن قول الله عز وجل (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) هل عبدوهم؟ فقال: "لا ولكن أحلوا لهم الحرام فاستحلوه وحرموا عليهم الحلال فحرموه (خطيب البغدادي نقلاً عن أبي البختري)

 

وقال أبو البختري: إن النصارى واليهود كانوا يعبدون الأحبار والرهبان فيما أمروهم من الإحلال والتحريم. ولكن ما صلوا لهم حتى وإن قالوا "صلوا لنا" فلم يجيبوهم ألبته. ولكن أمروهم قبول ما حرموهم فيما أحله الله عز وجل وقبول ما أحلوا لهم فيما حرمه الله عز وجل وهم أطاعوه في ذلك. هذا هو معنى الربوبية! أي هذا معنى اتخاذ أنفسهم أرباباً! (الفقيه والمتفقه)

قال ربيع بن أنس: سألت أبا على: "كيف كان اتخاذ الربّ في بني إسرائيل؟" رد علي وقال: " هم وجدوا أوامر الله ونواهيه في كتبهم، قالوا ما هي أوامر و نواهي علماؤنا؟ وبذلك أخذوا أقوال الرهبان والأحبار وتركوا كتاب الله وراء ظهورهم." كما هو الحال عند الأتاتوركيين؛ أخذوا أقوال كمال آتاتورك وتركوا أوامر الله ونواهيه.

روى الترمذي عن عدي بن حاتم: قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ: "إتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه." (أخرجه الترمذي وقال حديث غريب)

رغم غرابة هذا الحديث عند الترمذي ولكنه ينور طريقنا في تفسير هذه الآية.

ويقول حذيفة بن اليمان وابن عباس وغيرهما في تفسير هذه الآية الجليلة نفس الكلام والله تعالى يقول في هذه الآية المذكورة:

وما أمروا إلاّ ليعبدوا إلهاً واحداً لاّ إله إلاّ هو سبحانه عمّا يشركون (التوبة:٣١)

إن ظاهر هذه الآية تبين لنا: أن الإتباع والطاعة لما أنزله الله عز وجل هي عبادة وأن عدم الإتباع لشرك وشيء موصل إلى الشرك ويصيره مشركاً! ويمكن لنا أن نعبر عن هذا هكذا: ومن أطاع قوانين أحد ما فهو متخذه رباً ويصير هو بذلك عبداً له. وكما أن هذه الآية وأمثالها تبين لنا هكذا كذلك يؤيد حديث عدي بن حاتم هذا الموضوع، وكذلك تفاسير العلماء في هذا الاتجاه.

وكل هذا يبين لنا: أن من شروط الإيمان قبول أحكام الله عز وجل ووصايا النبي صلى الله عليه وسلم والرضا بها والاستسلام لها، لأن الإيمان بالله عز وجل وبكتابه يوجب ذلك. وبعبارة أخرى: إن من مضمون الإيمان بالله عز وجل وبكتابه هو أن الله سبحانه وتعالى إذا أحل شيئاً فهو حلال وإذا حرم شيئاَ فهو حرام، أي إن الميزان هي الشريعة والشريعة هي قانون الله عز وجل الذي لا يضل ولا يخطأ. وبناءً على ذلك أن من أتى بالقوانين التي هي صنع البشر بدلاً من أحكام الله تعالى وشريعته كلياً أو بعضاً فيصير هو مشركاً أشرك بالله سبحانه وتعالى وخرج من الملة.

وهنا مسألتان: تفكروا مسلماً ترك شريعة الله تعالى وامتنع عن اتباعه واتبع القوانين التي هي صنع البشر. فما حكم أمثال هؤلاء؟ والجواب: كفر وشرك، أي صار مشركاً وكافراً.

والمسألة الثانية: إن أكثر الأمراء في العالم الإسلامي من هذا القبيل أي ألغوا شريعة الله تعالى وحتى منعوها واعتبروا الذكر عنها جرماً وحكموا عليها عقوبات واحتقروها. وكلها ليس رؤيا ولا خيالاً ولا اتهاماً بل حقيقة ثابتة بأقوال وبأفعال أنفسهم وبتصرفاتهم. وليس من قبيل الرد والإنكار.

 

موقف علماء السـوء:

انظروا! ماذا يفعل هؤلاء العلماء السوء حيث أن الحقيقة في هذا المركز؟ هم يتنازلون عن الإسلام لمن لم يحكم بما أنزل الله في مؤلفاتهم وفي إلقاء المحاضرات إما لعدم كفاية علمهم وإما لكونهم متنازلين عن الإسلام وإما لخوفهم من النظام وهم يعطون الضوء الأخضر عليهم ويشجعونهم وكأنهم يقولون لهم" إنكم تستطيعون أن تحكموا بغير شريعة الله، يكفيكم أن تؤمنوا بالأحكام الإلهية وأن لا تنكروها. ثم بعد ذلك اتركوا الشريعة وأصدروا القوانين التي ستراعون شؤونكم حسب هذه القوانين وحتى تؤسسوا محاكم خاصة لمن يعترض عليها، وتقضوا عليهم أو على الأقل تسكتوهم. وإذا اجتمعنا نحن كالأساتذة وأنتم كالدولة ترى الشعب يسمع أقوالنا ويتابعوننا بدلاً من أن يتابعوا ويسمعوا أقوال الأساتذة الذين يقولون: "الشريعة الشريعة" ويدعون بكفر الأتاتوركيين.

هذا وإن علماء السوء الذين يقولون هكذا ويشجعون هؤلاء المشركين الذين هم جميعاً أعداء الشريعة، أخطر من الذئاب التي تهاجم على قطيعة الأغنام. والله سبحانه وتعالى يحفظ هذه الأمة من شرورهم ومفاسدهم.

 

كــفــر دون كــفــر:

وأحد مفاسد علماء السوء الذين هم من هذا القبيل كما ذكرت وسأذكر كذلك فيما بعد (الذين هم وضعوا ٩٨ مادة ناسفة متفجرة -ديناميت- تحت أصل الدين الشرعي). هذا وهو دفاعهم عن مصطفى كمال والأتاتوركيين الذين هم أعداء الله عز وجل ويقولون إن هؤلاء ليسوا بكافرين وبمرتدين بل إن كفرهم دون الكفر وعبارة عن المعصية والإثم ويسندون أقوالهم هذه إلى قول ابن عباس -رضى الله عنه- إذ يقول "إن هو إلا كفر دون كفر" ولكن قولهم هذا كذب على ابن عباس وأمثاله من العلماء -رضي الله عنهم أجمعين- وجريمة قبيحة عند الناس وإضلال جمهور الأمة. لأن ابن عباس لم يقل: "من ترك شريعة الله تعالى واتبع حكماً غير حكم الله تعالى فهو داخل في كفر دون كفر!" والذين أسندوا هذا القول إلى ابن عباس رضى الله عنه لم يسندوه في هذا المعنى ولم يفهموه أيضاً في هذا المعنى، وهذا كذلك كذب وفرية. ولم يقل ابن عباس ومن تبعه مثل هذا القول.

ولكن الذين يدافعون عن الأتاتوركيين بتقديم هذا القول ينسون الظروف التي قيل لأجلها هذا القول وفي من ذكر هذا القول أو لا يبغون! وإذا أردتم أن تصلوا إلى نتيجة حقيقية فعليكم أن تفكروا في شروط ذلك اليوم ورجالها. و تفكروا شروط اليوم الراهن ورجالها أيضاً وقارنوهما سترون الفروق بينهما كالجبال! وسأوضح هذا الموضوع في العدد القادم ولكن الآن أذكر التالي: إن الشريعة والأحوال في ذلك اليوم لم تكن نظاماً ولم تكن رجالها الجماعة الجمهورية! فماذا كان إذاً؟

كما أن الموضوعات المهملة لم تكن سوى موضوعات منفردة كذلك إن الذين يحكمون ويقررون خلاف الشريعة لكانوا أشخاصاً منفردين. إذا حكم شخص في ذلك الوقت خلاف الشريعة لكان يحكم إما اتباعاً لنفسه وإما رحمة لمن يحكم فيه وإما لسبب ما كان يعلم ويعترف أنه أخطأ وأنه آثم. هذا وإن كفر من حكم وأصدر القرار خلاف الشريعة في هذه الظروف والأحوال كفر دون كفر.

وأما الظروف والأحوال في هذا اليوم الراهن: إن المسألة ليست خاصة بل عامة، أي إن المسألة خرجت من كونها منفردة بل صارت تعميماً ونظاماً. كذا، إن الحاكم والمحكوم لخرجا من كونهما منفردين بل صارا لجماعة الجمهورية. وبناء على هذا إن الحاكم والمحكوم ليكونان كافرين ومرتدين (إن رضوا بالكفر)!

 

جمال الدين بن رشيد خوجا أوغلي (قابلان)


RISALE

ZÄHLER

Heute 5790
Insgesamt 4843720
Am meisten 42997
Durchschnitt 1790